مزالي بوزارة التربية

مزالي بوزارة التربية

كتاب « نصيبي من الحقيقة »

اضطلعت بمسؤولية وزارة التربية القومية على كرات ثلاث[i] ولمدد قصيرة : خمسة اشهر، ثم سبعة عشر شهرا، وأخيرا لفترة أقل من أربع سنوات.

…وقد تشكلت سنة 1957 لجنة أوكل إليها أمر إصلاح التعليم وواجب تعميمه، وتونسته من جديد، وتحديثه. وكانت رؤيتان تتواجهان في صلب هذه اللجنة : إحداهما يدافع عنها الوزير الأمين الشابي والعابد مزالي الكاتب العام للوزارة، ومحمد بكير رئيس مصلحة التعليم الابتدائي، وكنت على رأيهم، وترى المحافظة على الإصلاح الذي بدأه لوسيان باي، مدير التعليم العمومي في عهد الحماية ومواصلته، والذي كان أقره تحت ضغط الحزب الحر الدستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل، وذلك بتعريب محمود المسعدي، رئيس مصلحة التعليم الثانوي وعدد من الوزراء الذين كانوا يرون، بدعوى الحداثة والخروج من التخلف، التراجع عن المكاسب التي تم الحصول عليها من سلطات الحماية واختيار ثنائية لغوية غير متساوية، تكون فيها اللغة العربية مادة لتدريس علوم الدين والنحو والصرف وكذلك تفسير النصوص… المشرقية. أما باقي المواد من حساب وعلوم طبيعية وتاريخ وجغرافيا، فتدرس باللغة الفرنسية.

وعند تحكيم رئيس الجمهورية كانت الغلبة للرؤية الثانية. ونتيجة لذلك وقع تعيين المسعدي وزيرا للتربية القومية في 8 ماي 1958.

…وعوضا عن هذه السياسة التعليمية المتوازنة الأصلية، اندفع المسعدي، بلا هوادة، في عملية « تمدرس » محمومة، لا تخلو من مغالاة. فكان مخططه العشري للتعليم الذي وضعه – في الحقيقة – خبير فرنسي هو السيد دابياس، وجماعة أخرى من المتفقدين الفرنسيين، يقضي بتسجيل عدد من التلاميذ الجدد يترواح بين 50.000 و 60.000 في الابتدائي سنويا مما يتطلب فتح ألف قسم كل سنة.

وهو ما اضطره كذلك إلى فرض محل واحد لكل فصلين مخصصين للتلاميذ، والتخفيض من ساعات التعليم الأسبوعية للسنتين الأولى والثانية (خمس عشر ساعة عوضا عن ثلاثين ساعة).

…وبدأت الشروخ تظهر في بناء المسعدي إلى الحد الذي دعا الرئيس بورقيبة إلى تكوين لجنة وطنية لتقييم « عشرية المسعدي »، وانتقد « اصلاحه » في خطاب أمام العموم. وكان بن صالح نائب رئيس هذه اللجنة. ومن السهل على الباحثين المهتمين بأشغال هذه اللجنة تبين قساوة الانتقادات وخطورة التشخيص الذي صدع به أغلب المشاركين فيما يتعلق بمستقبل أبنائنا نتيجة فشل برامج المسعدي. وأخيرا وقع تعويضه على رأس وزارة التربية بأحمد بن صالح لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ! ومن حسن حظه أن حلت الأزمة الناتجة عن سياسة التعاضد فغطت كارثة « عشرية المسعدي ».

…وبالرغم من كل ذلك، كنت أحترم دائما المسعدي، الأستاذ والمثقف وانتقدت فقط الوزير. وتساءلت بيني وبين نفسي أحيانا ألا تكون السياسة قد « أفسدته » وصرفته عن الإبداع الأدبي.

…أعطيت محمد الناصر من كتابي مصدرة بإهداء لطيف ليتولي تسليمها لأحمد بن صالح. وكان ذلك مني عربون احترام وصداقة ولأن أحمد بن صالح ساهم بكتاباته في مجلة الفكر ياسمين مستعارين وهما أبو الحسن تارة وإبراهيم تارة أخرى.

وقام الطبيب بالمهمة ولكني لم اتصل برد من بن صالح، إذ داهمت الشرطة منزله وألقت عليه القبض بعد يومين فقط من الحادثة. وحجزت أوراقه وكذلك نسخة الكتاب المهداة. وكان ذلك كافيا لتجعل بطانة الرئيس من الحبة قبة وتضخم القضية وتجعلي من أتباع بن صالح الغلاة، والحال أني كنت من القلائل الذين عبروا عن تحفظاتهم بخصوص جوانب من السياسة المتبعة، مع الحفاظ على صداقتي مع الرجل وبصفته مناضلا جديرا بكل تقدير واحترام. وبقي كذلك إلى اليوم في نظري.

…أما بخصوص ما يراه الشرفي من « اختفاء » فولتير من البرامج، فاخشى ان يكون الرجل ضحية سراب، فاختلطت عليه الأمور، لأن تدريس آثار فولتير كان دائما، وإخاله لا يزال، ضمن برنامج الأدب الفرنسي في السنة السادسة ثانوي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى منتسكيو وديدرو والموسوعيين. فلقد درسناهم دائما في هذا الإطار. ولا أحسب أن جامعيا بحجم عبد الوهاب بوحديبة الذي ترأس وقتها لجنة برامج الفلسفة، كان مستعدا ليقبل المساهمة في عمل يرمي « لإزاحة العقلانية » من محتوى هذه البرامج أو ليرضى التضحية بديكارت وسبينوزا، أو فرويد أو حتى ماركس. كما أني لا أحسب أن العديد من الأساتذة الفرنسيين الأعضاء في اللجنة كانوا مستعدين لقبول هذا الانعراج نحو الظلامية ! والحقيقة أن كل ما وقع هو إضافة دراسة الفلاسفة المسلمين، من أمثال أبي حامد الغزالي وابن سينا وابن رشد، إلى برامج الفلسفة.

…كما أضيف أن الشرفي الأستاذ الذي أكن لشخصه كل الاحترام وأقدر فيه قناعاته، قد وقع تحت تأثير الشرفي الوزير إذ صرح لجون أفريك، قائلا : « وفي الماضي، أتخذت، كرد فعل ضد تصاعد اليسار، إجراءات ذات طابع ديماغوجي (!) أو سياساتي، ولمواجهة ذلك رأى القوم من الأحسن تسريب جرعات من العروبة والإسلام. وكان ذلك خطأ بالإضافة إلى أخطاء أخرى نتبين بعد آثارها ». ولئن كنت أنا المعني الأول في كل هذا فأملي هو أن يتبين السيد الشرفي أنني لم أقم بما قمت به، في فترة الهادي النويرة، إلا طبقا لقناعاتي، لا لحسابات سياسية، وأن ذلك كلفني الكثير، أقلها إعفائي مرتين من التربية القومية.

…واذكر في هذا الصدد أني حرصت – رغم معارضة أقلية من الوزارء عامي 1981 و1982 وخاصة وزير المال والتخطيط منصور معلى – على إرسال عدد من حاملي الباكالوريا الى الجامعات العلمية والتكنولوجية في الولات المتحدة وكندا.

…وسألت الهادي نويرة أن يبلغ رئيس الدولة بأني كمسؤول في أية وزارة أو في الديوان السياسي للحزب سأواصل جهادي من أجل تأصيل الشباب والدعوة إلى التعريب، والذود عن مقومات الحضارة التونسية العربية الإسلامية، فتظاهر بأنه لم يسمعني واكتفى بالقول : »ربي يعينك ! ».

…بادرة قمت بها سنة 1960 لفائدة محمد الصياح، ولعلها كانت سببا في تحديد مسيرته السياسية. وبصفتي مديرا عاما للشباب والرياضة، كنت بصورة طبيعية مشرفا على منظمات الحركات الشبابية، ومن بيها اتحاد الطلبة التونسيين. وكان الصياح الذي سمي أستاذا في اللغة والآداب العربية انتخب كاتبا عاما لهذه الحركة الطلابية، وللقيام بهذه المهمة التمس من وزير التربية منحه نصف إلحاق. وإثر رفض المسعدي الاستجابة لطلبه التمس مني أن أتدخل لدى الوزير. وبما أنني اعرف أن المسعدي متعنت لا يفهم إلا منطق الأمر والطاعة أخذت الصياح معي في سيارتي والتحقنا ببورقيبة في بني مطير. وما أن علم الرئيس بالأمر حتى هتف للمسعدي وأمره بحزم بإلحاق الصياح باتحاد الطلبة إلحاقا تاما. وهي المرة الأولى التي رأى فيها بورقيبة هذا الأستاذ الشاب.

…وألغيت بأمر سلك الحرس الجامعي، وكان أحدثه إدريس قيقة عام 1975 وأفرجت عن مئات المعارضين السياسيين، وخصوصا النقابيين المحكوم عليهم سنة 1978، وكذلك الطلبة (حرص بورقيبة على ملاقاة عدد منهم في قصر صقانس للتعرف إليهم بلطف درسا قبل إطلاق سراحهم) المحكوم عليهم بالسجن سنة 1975.

…وهنا لا بد، احتراما للتاريخ، من الإشارة إلى التحريف الوارد في روايد الطاهر بلخوجة لهذا الحدث في كتابه « ثلاثة عقود من حكم بورقيبة ».

« نحن (!) حررنا النص الذي رأينا تضمينه في صلب الخطاب الذي كان بصدد إعداده الشاذلي القليبي مدير ديوانه الأسبق، ولكن مزالي (كذا) الذي أكد تحفظاته الأولى خشية النيل من وضعه كخليفة آليا عاد (من أين؟) ليقول لنا لا يمكن الضغط على بورقيبة بهذه الصورة وأن القليبي طلب منا مراجعة الرئيس مسبقا. ومن دون أن يفت ذلك في عضدنا اقترحنا تكوين لجنة. واضطر مزالي إلى قبول عرض النص على بورقيبة الذي أمضاه »، والحال أن ليس هناك مجال للإمضاء !

 

[i]  – من 29 ديسمبر 1969 إلى 12 جوان 1972.

– من أوائل نوفمبر 1971 إلى 18 مارس 1973.

– من غرة جوان 1976 إلى أوائل مارس 1980.

Comments are closed.