فرار محمد المزالي

فرار محمد المزالي

« من كتابه : « نصيبي من الحقيقة

وفي 24 جويلية 1985 دعاني بورقيبة على الساعة الخامسة الى قصر سقانص بالمنستير. وما أن دخلت مكتبه حتى رأيته يستجوب علالة العويتي، فحضرت بذلك بذلك مشهدا مؤلما.

…وللتذكير فإن العويتي بقي منذ الثلاثينات يباشر مهمة كاتب خاص للرئيس. لقذ كان موضع ثقته، وحافظ أسراره، ومدبر شؤونه اليومية، والممرض، والمتلقي لسورات غضبه، ومثال الوفاء له.

…وهكذا نجحت العصابة المكونة، بالخصوص، من منصور السخري وسعيدة ساسي في إبعاد بورقيبة الابن، وعلالة العويتي، ووسيلة. وأصبح بورقيبة شيئا فشئا في عزلة. ثم جاء دوري في 8 جويلية 1986.

…فقد حيكت مؤامرة خطيرة تمثلت في « مسرحية » درامية، أبطالها أعضاء في الحكومة دعوا الى قصر صقانص يوم الثلاثاء 8 جويلية بمعزل عن الوزير الاول الذي لم تقع دعوته وهؤلاء هم وزير التخطيط والمالية، ووزير الاقتصاد، ومحافظ البنك المركزي ومدير الديوان الرئاسي الذي كان يشغل في نفس الحين وزارة الوظيفة العمومية.

…لقد انتهى إلي أن الرئيس بورقيبة حين توجه بسؤاله : « من المسؤول عن تردي الوضع المالي والاقتصادي بالبلاد »؟، لاذ الجماعة بالصمت ولم يجرؤوا على تذكيره بما قامت به الدوائر المختصة في الحكومة لمجابهة كل الصعاب وإيجاد العلاج المناسب، وكانما لم يسبق لهم أنا شاركوا بانفسهم في البحث والتحليل، ولم تقع المبادرة بعد في تطبيق ما اتخذ من قرارات. والحال ان كل الأطراف المعنية بهذا الموضوع قد صادقت عليها.

…وقبل يوم من هربي ذهبت كالعادة، على الساعة السابعة صباحا الى ممارسة الرياضة في ثكنة باردو كما دأبت على ذلك منذ عشرين عاما تقريبا, التقيت السيد رشيد عزوز وهو مقدم متقاعد، ومهندس طيار عرفته لما كنت وزيرا للدفاع.

…وحوالي نصف النهار والنصف أخذت كيسي. ولم أخرج من الباب الرئيسي للمنزل، وتسللت وراء أشجار البرتقال حتى وجدت نفسي خارج البيت من الجهة  المقابلة، حيث كان عزوز في انتظاري.

…خرجت وعلى رأسي منديل حتى لا يمكن للحارس التعرف إلي. وأركبني عزوز سيارة مهتزة لئلا تلفت أنظار الفضوليين. وذهبنا الى بيته بسكرة. ووضعت على رأسي شاشية، ولبست « بلوزة » كالتي يستعملها صغار التجار. وحوالي الساعة الواحدة والنصف، خرجنا وانتهجنا طرقا ثانوية. وكان رشيد عزوز يقود، هذه المرة، سيارة من نوع فورد اسكورت كانت على ملك ابن أخيه نبيل. وقد دعا سائق تاكسي، وهو رجل تقي، يدعى الهادفي لمرافقتنا ليصلح السيارة او وقع بها عطب كما قال. مسك عزوز المقود وركبت الى جانبه. وكان اخذ معه لمجات تونسية بالتن والهريسة الخ… لم نصادف في طريقنا احدا الى وصولنا مدينة باجة. إذ الناس يركنون، في هذا الحر الشديد، الى القيلولة. هكذا صلحت خطتي.

…وتركنا على يسارنا نزل حمام بورقيبة وسلكنا طريقا غابيا غير معبدة. وكنت عارفا معرفة سطحية بالمكان. وفي وقت من الأوقات تعذر على السيارة سلوك المسلك، فاضطررنا الى تركها على حافة الطريق، وانحدرنا من بين أشجار البلوط الى كوخ متواضع. قال عزوز : »إن ابن صاحب الكوخ يعرف مسلكنا يسمح باجتياز الحدود من دون عوائق ». كان يدعى عبد الرحمان غويبي.

أما الحدود فلم تكن إلا نهرا. وبعد ذلك بسنوات عملت من أحمد بن صالح أنه سلك المسلك نفسه وعبر النهر نفسه عام 1973. ولكن، بالنسبة إليه، كان بعض أصدقائه الجزائرين ينتظرونه، بينما بالنسبة إلي كانت المغامرة، والمجهول، إذ لم يكن أحد من الجزائريين على علم بقدومي.

…وبدأ الظلام يخيم فأخذنا السيارة وانحدرنا في المسلك حتى اضطررنا من جديد الى التوقف. وفي ذلك الوقت قمت بحركة ينقصها الحذر اذ نزعت نظارتي. وتعرف الرجل الي. وقال : »أنت سي محمد مزالي.

نعم

لا. الأمر خطير جدا. لا أقدر على تسهيل اجتيازك الحدود لأنني أعرض نفسي للسجن ».

في ذلك الوقت قال له عزوز : »اسمع لا أحد سيعرف ذلك ».

وأعطاه كل ما في محفظة نقوده أي 200 أو 300 دينار. وعلاوة على ذلك وعده بأن يأخذه معه ليلا بالسيارة ويمكنه من عمل بتونس. وتظاهر الرجل بقبول المال والوعد. عند ذلك تركنا السيارة. وكان من الضروري سلوك منحدر، واجتياز نهر يثمل الحد الفاصل بين تونس والجزائر، ثم بعد ذلك تسلق السفح الآخر من الجبل. ولما شرعنا في سلوك المنحدر قال لي الشاب : »اسمع يا سي محمد، اختبئ وراء هذه الشجرة، شجرة البلوط، وأنت سي عزوز وراء تلك الشجرة، وأنا سأشرع في تفقد ما حولنا حتى أتبين عدم وجود أعوان من الحرس الوطني ».

وفهمت أنه سيخوننا، خوفا أو طمعا، قلت لعزوز : »يجب احتجازه لانه سيبلغ عنا السلطة ».

وأنت؟

أنا سأذهب وحدي.

ولكنك لا تعرف المكان.

لا يهم، سأخاطر بنفسي، إن الله معي… « كنت متيقنا ان الحياة كانت أمامي، وإذا رجعت على أعقابي كان الموت.

عند ذلك انقض عزوز على الشاب وشل حركته. وكنت أحس ورائي بضوضاء الصراع الواقع بينهما. وكنت في ليلة لا قمر فيها، ثم تفاقمت الظلمة. ولكن كلما رفعت رأسي أبصرت في الأفق أضواء باهتة، كانت لي بمثابة البوصلة. وواصلت زحفي الى الأمام لا ألوي على شيء في الظلمة الدكناء، من دون أن أظفر بأي مسلك بين، وليس لي من هاد إلا هذه الأضواء الواضمة التي لا ألحظها إلا عند رفع رأسي. وسقطت في وهدة عمقها متر أصبت من جرائها في جبيني وتدفق الدم غزيرا. والى اليوم أحتفظ بالمنديل الذي به أوقفت سيلان هذا الدم.

…وعندما التفت، رأيت على الجانب التونسي أضواء وسيارات تمر. وكنت أقول في نفسي لا بد أنهم على علم الآن بفراري وأنهم يتعقبونني. وكان عمق النهر أربعين سنتيمترا، لم أجد أية صعوبة لاجتيازه.

ثم بدأت في تسلق الجبل. دام ذلك ساعة أو ساعة ونصفا، ومنحسن حظي أنني كنت في لياقة بدنية جيدة رغم الرهق. ولم ألبث أن وجدت نفسي في غابة : وبما أنني لم أكن أرى شيئا، اصطدمت أكثر من مرة بجذوع الأشجار وبالأغصان، فأصبت بخدوش. ونشبت سراويلي في جذع شجرة وبما انني أتقدم بقوة تمزق النسيج وأحدث خرقا طوله عشرون سنتيمترا في مستوى الركبة. ولككن واصلت الصعود وأنا أتصبب عرقا. وكنت أحمل كيسا صغيرا طوله خمسون سنتيمترا، حافظت عليه إلى هذه الساعة، ولم يكن ثقيلا !

وبعد أن تسلقت الجبل زمنا ظهر لي طويلا، وصلت الى قرية حدودية، هي تلك التي كنت تبينت أضواءها الباهتة، وصلحت لتكون لي بمثابة المنار. اتجهت نحو عائلة أفرادها جلوس أمام منزلهم. فوقف الرجل وأقبل علي، وبعد أن تفحص ملامح وجهي قال لي، وقد شعرت بالارتياح : « سي مزالي؟

كيف ؟ عرفتني ؟

وهل يوجد جزائري واحد لا يعرفك. »

…ورافقني حتى وصلنا معسكر محاط بأسلاك شائكة. وكان في المدخل حارس شاب لابس بدلة لونها أزرق داكن، وبيده كلاشنيكوف. فلما رآني استعد وحياني تحية عسكرية، ثم جرى لينادي من هو أرقى منه رتبة، فما أن رآني الضابط حتى حياني أيضا.

وتم استقبالي بالثكنة. ووضعوني في إحدى غرف النوم تحتوي على سرير مزدوج. فتمددت وبدأت أسترجع أنفاسي. وجاء جندي ومعه « مركوروكروم » وأخد في تطهير جروح بالجبين، واليدين والرجلين التي أصابتها الخدوش من جراء الأغصان وأشواك الغابات. وقدم لي جندي آخر إناء ملئ عنبا أسود. وطفقت أقضمه لأنني عطشت وجف مني الريق. دام ذلك ما يقارب ثلاثة أرباع الساعة. فوجدت نفسي في حال غريبة، كلي خدوش، رث الثياب.

وفجأة دخل علي رجل بدين وقصير، كله حيوية، يشارف الأربعين حولا، لابسا كسوة صحراوية، في لون التبن وقال لي :

« مساء الخير يا سيدي الوزير الأول.

أنعم الله مساءك، ولكني لم أعد وزيرا أول.

بالنسبة إلي، مازلت وزيرا أول وسأعتبرك كذلك إلى آخر حياتي.

شكرا جزيلا.

أطلب من فضلك أن ترافقني الى ثكنة القالة الكائنة على بعد أربعة كيلومترات من هنا.

بكل سرور ».

…ووضعوني بغرفة صغيرة أمكن لي فيها أن أصلح من حالي وأنام نومه مضطربة. وعلى الساعة السادسة صباحا زراني مضيفي وأعلمني أننا سنسافر توا إلى الجزائر.

…وقاد السيارة، وأنا بجانبه.  واجتزنا بلاد القبائل. وكنت استمتع بالمناظر الخلابة وأردد ملاحم جيش التحرير البطولية طيلة السنوات الثماني التي كافح أثناءها الشعب الجزائري الشجاع من أجل الاستقلال. وعبرنا تزي وزو، في منطقة القبائل، فتأثرت أيما تأثر عندما استعرضت شهامة أهاليها واستشهاد أبطالها. وحوالي الساعة الواحدة والنصف وجدت نفسي بقصر يبعد ما يقارب الخمسة عشر كيلومترا عن الجزائر العاصمة. استقبلني هناك الجنرال قائد المخابرات العسكرية. وسكنت بشقة فاخرة أمكن لي بها أن استحم بسرعة.

وبادرني الجنرال بقوله : »هذا الهاتف، طمئن السيدة مزالي ».

وركبت رقم الهاتف، فأجابتني :

أين أنت ؟

أنا بباليرمو (صقلية).

متى ترجع ؟

في أقرب وقت »

…أقمت أربع أيام في القصر بالجزائر العاصمة. وفي اليوم الثاني زارني، في المساء ولمدة ثلاث ساعات، السيد الشريف مساعديه رحمه الله. وكان الرجل الأول في جبهة التحرير. وتناقشنا في كل شيء. هو رجل جدي أمضى دراسته بجامع الزيتونة وكثيرا ما لاقيته بتونس. وذكرني بأنه ناضل في صفوف الحزب الدستوري لما كان طالبا.

…وفي اليوم الرابع، استقبلني الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية طيلة ساعة ونصف بصورة ودية للغاية. وأثناء هذه المقابلة تحدثت معه عن مشاكلي. وعبر لي عدة مرات عن مخاوفه إزاء مستقبل تونس، وقال لي إن التعاون التونسي الجزائري لا يظهر مؤمنا بعد عزلي المفاجئ. ثم أمسك بيدي، وعبرنا بهوا وصالونات، ودخلنا مكتب مدير ديوانه، الجنرال العربي بلخير : قال له : »الأخ محمد يريد أن يذهب الى سويسرا، قم نحوه بما هو ضروري. »

وعانقني وقال :

« إذ جد مشكل، فاهتف لي. ولنا سفير بسويسرا. سيكون تحت تصرفك ». فشكرا جزيلا للرئيس الشاذلي لموقفه الأخوي تجاهي، ومروءته، وطيبة نفسه.

وتسلمت تذكرة سفر إلى جنيف من الدرجة الأولى على الخطوط الجوية الجزائرية مع 000 40 فرنك فرنسي. وفي الغد 7 سبتمبر، أوصلتني سيارة إلى مدرج الطائرة. فلقيت بها عددا من المسؤولين الجزائريين منهم المناضلة زهرة الظريف وهي من بطلات المقاومة الجزائرية، وكان الجميع آسفين لما حل بي، إزاء مصير زوجتي التي يعرفونها جيدا، ومصير أبنائي.

Comments are closed.